بالصور... حيفا وعكا.. أن تبحث عن نفسك بين البقايا

04.09.2013 10:38 AM
وطن – رحمة حجة:

هو: إنتو عندكو فكرة عاطلة عن الجنود، لا؟
أبتسم.. وأقول "مش مشكلة"

هذه الابتسامة لم أتوقعها سابقًا منّي، وأيضًا لم أتوقع مواجهةً قاسية ولو بالكلمات، فعادة ما تكون "التكشيرة" وتجنّبهم، وسيلتي في التعبير عن رفضي لوجودهم، أو لتصرّف مثل هذا الشاب العربي الذي دخلَ صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي.

وكأنه يحاول "تجميل" الفكرة التي عرفها من ابتسامتي، ليستغلّ اللغة المشتركة بيننا، وتكون مدخَلهُ حتى يطمئنني أن لا أحد من عيون الجنود –مثله- التي تتربصّ بي يمكنها إيذائي، ربما لفت نظرها حجابي أو مساعدة عجوز عربي لي حين سأل ذات الجندي عن موعد باصات القدس، وتركني أنتظر الرقم "960" الذي سيُقلّني من حيفا إلى القدس، فأكون بذلك للمرة الأولى، العائدة من حيفا، والمارّة بالقدس دون التقاط نفس منها يسعفُ الاشتياق، أمّا المقصِد.. رام الله، أخبروني عن عودة أكثر وجعًا من ذلك، وعن زيفٍ أكبر من هذا المقصِد!؟

مضى ومضيت.. قال "باي" في آخر الرحلة وتجنبتُ النظر إليه بـ"سلام".. سيُعدّ في مكان ما رصاصات الحرب التي يعلنها قادته، وأحصي أنا عبر مواقع الأنباء أعداد الضحايا حينها، وربما بينهم كنتُ.. ضحيّة!

"لو شربوا البحر"

"سقف البيت وقع.. وممنوع يتصلّح، وإمي مستحيل تترك دارنا".. قالها رجل في أواخر الستين، أثناء محادثته صديقتي عن بعض تاريخ التهجير، الذي ظلّ عالقًا في رأسه.

وهو الذي تذكّر عائلة جدتها، فكان الحنين خيطَ وصلهما إلى عكّا قبل 65 عامًا، وفتيلًا لإشعال الحكايا في لقاء آخر موعود.. قد يأتي.

وهاجس الحنين والبحث عن قشة في هذا البحر الكبير الذي لا يستطيع هدم السور، كان رفيقنا في جولة بحرية، غنّى فيها محمد عسّاف، ورقص البعض على وقع النغمات، وصفق آخر، والصوت الهادر للموج لا يمنع العبارة الموجعة "ما شبع منّا الشقى ولا كنّا نلتقى" من التسلل إلى عيون البعض ليحدث غصّة..

والبحر في عكا مراكب وصيادين وعرباتٌ تجول داخل المدينة القديمة بالذين أتوا للاستجمام هذا النهار، وعروسٌ تفرد طرحتها على الميناء لتلتقط إلى جانب العريس صورة للذكرى، وشبابٌ وأطفال يعتلون السور في إحدى زواياه، استعدادًا لقفزات خُرافية تحرّك شغف المصورين الفوتوغرافيين.

في عكا، أقصد المنطقة المجاورة للسور والميناء، البيوت ما زالت محافظة على عروبتها، كما يبدو عليها أثر السنين، كعجوز في السبعين، يرتدي تجاعيده ويتحدث عن ماضيه، ولا شيء يربطه بالحياة إلا ابتسامة جميلة تنسيه الوجع، كما القواوير المزروعة بالورود والمدلّاة من بعض النوافذ، وألوان البضائع المعروضة للزائرين، التي تمنح المكان بهجته.

وليل البحر منيرٌ بانعكاس أضواء مركب صغير، الذي يحمل الناس، كما يحمل الأغاني ليوزعها في الهواء الرطب، وأنا مع الأصدقاء أتناول، للمرة الأولى، بعد تجاوزي 27 عامًا من الحياة.. سمكًا طازجًا بمحاذاة موطِنه، والمطعم "دنيانا".. آه يا كلّ الدنيا يا عكا.

تقول صديقتنا الحيفاوية "لا أستوعب كيف يمكن للناس أكل السمك دون أن يكون في مناطق سكناهم بحر!".. لا أستطيع الرد، وأنا التي قضيتُ عمري كما كثيرين، نأكل المجمّد و"المقطوع رأسه"، وأفكر.. لكلّ تجربةٍ منطِقُها الذي يرسمُ المعادلة.


حيفا.. أن تعشق!

ولأول مرة أيضًا، أستيقظ في الأراضي المحتلة عام 1948، في إحدى قرى حيفا الجميلة، التي تطلّ على أشجار الكرمل المتكاتفة.. أحاول استنشاق ما يكفي من الهواء، لتروية الشوق الذي سيحصل في أول خطوة للعودة بعد ذلك..

لكل شيء في روتيننا اليومي، نكهة مختلفة هنا، وذاكرة جديدة. تنظيف الأسنان.. تبديل الملابس.. تزيين العينين بكحلهما.. فتح الشباك لالتقاط نسمات الهواء.. فنجان الشاي مع نعنع.. انتظار الباص.. و... لا شيء يشبه الذي نمارسه يوميًا هنا، أقصد في الضفة، حتى أني أفكر بتأثير الانبهار الأول "أيعقل أننا نقطنُ ذات البقعة الجغرافية.. تبًا!"

الذاكرة.. الذاكرة، هي كلّ ما أملك الآن من تفاصيل الالتحام الأول والفراق المرير عن حيفا.. تمامًا كاللقاء الأول بين عاشقين، حذَرٌ لذيذ وإفصاح خجول، وخشية من تجاوز الساعة موعد العودة إلى البيت قبل المساءلة من الأهل، دون أيّ قبلةٍ تُسعفُ اللوعة.. فليس اليوم الوقت المناسب، هكذا يفكرّان.. لكن متى يأتِ الوقت؟

في حيفا تصبح الجميلات أجمل، والمُحبطَاتُ يزددن ثقة، وتدندن في القلب الجملة المألوفة "جدي أخبرني أن أجمل بلاد العالم حيفا، رغم أنه لم يزر أيًا من تلك البلاد". وأيضًا، يغدو الحزن أعمق، لرؤية هذا الكمّ الهائل من المباني التي أقيمت على أنقاض أرواحنا، والشوارع "الجميلة" والمواصلات "المنظمة" التي لا تستطيع محو المأساة (سبب وجودها) ها هنا.

وبين جامع الاستقلال وجبل الكرمل والكنائس المسيحية في حيفا التحتا، يبقى الشاهد على الجريمة.. وادي الصليب. ببيوته المهدّمة، وهدأته الغريبة عنه قبل أكثر من 65 عامًا، حيث كان محطةً اقتصادية تجارية هامّة، تجمع أهل البلاد إلى جانب العرب المهاجرين إليه خلال حقبة الاستعمار البريطاني.

اليوم، تحديدًا السبت، ينشر بعض الإسرائيليين والعرب بضائع مستعملة على طول شوارعه، وكما تقول صديقتنا "كأنهم يزيحون النظر عنه بجلب الزبائن إلى هذا القرف الذي يبيعونه..".

وصديقتنا الحيفاوية، القاطنة في إحدى القرى، كانت تتلو علينا تفاصيل الأمكنة، كما يتلو شاعر حزنه في القصائد، دون أن يُنقِص ذلك أيّ شيء من كبريائه. وهي التي تحمل زرقة البحر في عينيها، وجاذبية النجاح في مسيرتها العملية والعلمية التي لا حدود لها، وأيضًا رسالةً في نقل كل هذه الذاكرة بلا ملل إلى الزائرين من أصدقائها، وإلى المغيبين في شتات الأزمنة عن بلادهم، عبر صورها التي تجاوزت الخمسة آلاف، لـ 90 مدينة وقرية من فلسطين.. أعني كلّ فلسطين.

هي تعرف أين تقف لالتقاط صورة مناسبة، فترشدك إليها.. وأين تقف من أجل مشهد لن تنساه العين، كما القلب.. فتأخذك إليه، وتخبرك عن السلالم (الدرج) الذي يصل كل الحارات والتجمعات بعضها ببعض، فتستطيع في مسار ما، أن تمر من أعلى نقطة إلى أدناها في حيفا عبر السلالم فقط، وتقول "ترتيب المباني بين الأسفل والأعلى انعكاس طبقي للسكان، فكلما صعدنا إلى الأعلى سنرى الأغنى والعكس صحيح..".

أمشي في الشوارع القريبة من الميناء، وأتحرّى المقابر والجوامع، تلك التي تقف شوكةً في حلق "العمران" الإسرائيلي بالمدينة، إذ لا يستطيعون هدمها، فتظلّ شاخصة، وملفتة إلى جانب ناطحات السحاب الزجاجية، كما يبدو المشهد واضحًا عند مسجد "الجرينة" الواقع قرب ساحة "الحناطير"، المتحولة من مقصد تجاري منتعش، إلى موقف للسيارات.

أما "بلد الشيخ" التي كنتُ أبحثها في اللافتات والطرقات، من أجل أمي، التي أزهرت في ربيعها، أصبحت تسمى "نيشر".. ولا أثر فيها للفلسطينيين.. لكن الآن، تكفينا ذاكرة جدتي، وصوتك يا أمي عبر الهاتف تقولين "كنا عايشين في بلد الشيخ".
تصميم وتطوير